التاريخ ليس سردا للحوادث ولا مجرد قصص للتسلية، بل هو الذاكرة الحية للأمم. من وعى التاريخ في صدره - كما قال الحكيم - فقد أضاف أعمارًا إلى عمره، لأنه يتغذى على تجارب السابقين، وينطلق منها ليبنى وعيا جديدا قادرا على مواجهة تحديات الحاضر. نحن لا نقرأ التاريخ كي نحيا فيه، بل لنستخرج منه الدروس والعبر، ونحوّل العثرات الماضية إلى إشارات طريق تنير درب المستقبل. 

منذ ما يقارب القرنين والنصف، خاضت مصر تجارب متعددة في سبيل النهضة والتقدم البداية القوية كانت مع على بك الكبير في القرن الثامن عشر، ثم جاءت التجربة الأوسع مع محمد على باشا الذي حاول أن يؤسس دولة حديثة بجيش قوى وصناعة وزراعة وتعليم تواصلت المحاولات بعده فى فترات متعددة، من إصلاحات إسماعيل، إلى مشاريع البنية الأساسية في مطلع القرن العشرين، ثم تجربة ثورة يوليو وما حملته من طموحات للتنمية والعدالة الاجتماعية، وصولاً إلى انفتاحالسبعينيات، ثم سياسات الخصخصة والانفتاح الاقتصادي في العقود الأخيرة. لكن رغم هذه المحاولات المتكررة، لم تنجح مصر فى إحداث النقلة الكبرى التي حققتها دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين وفيتنام. هذه الدول انطلقت من ظروف أكثر قسوة، لكنها استطاعت أن تضع لنفسها مشروعا وطنيا واضح المعالم ، قائما على الانضباط، والتعليم، والعمل الدؤوب، وربط الماضي بالحاضر والمستقبل. 

لفهم هذا الإخفاق، يجب أن ننظر بموضوعية إلى العوامل التي عطلت المسيرة. أولها غياب الاستمرارية؛ فكثير من المشاريع الإصلاحية بدأت بحماس، لكنها لم تستكمل بسبب تغير القيادات أو تبدل السياسات أو ضغوط القوى الخارجية. وثانيها ضعف المؤسسية؛ إذ لم تكن هناك مؤسسات راسخة تحافظ على ما بدأه السابقون. ثم جاءت التحديات الخارجية، فموقع مصر الجيوسياسي جعلها دوما هدفا للأطماع، مما استنزف مواردها في حروب وصراعات متكررة. أما داخليا ، فقد تذبذب المصريون بين الانبهار بالغرب والارتماء في أحضان الماضي، فلم ينجحوا في صياغة نموذج خاص يجمع بين الأصالة والمعاصرة وأخيراً لعبت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية - من فقر وتفاوت طبقى وزيادة سكانية - دورا كبيرا في إعاقة المسيرة. 

حين ننظر إلى اليابان مثلاً ، نجد أنها بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية وضعت خطة شاملة للإصلاح الاقتصادي والتكنولوجي، وركزت على التعليم والانضباط الجماعي. كوريا الجنوبية بدورها انتقلت في نصف قرن من دولة فقيرة إلى قوة صناعية عالمية لأنها جعلت التعليم والبحث العلمى فى صدارة أولوياتها. فيتنام . الخارجة من حرب مدمرة - استطاعت عبر سياسات دوى موي ( التجديد ) أن تخلق اقتصادا ناميا وجاذبا للاستثمار هذه التجارب تثبت أن الإرادة السياسية الصلبة والرؤية الواضحة، والاعتماد على الإنسان كركيزة أساسية، هي مفاتيح النجاح. التاريخ لا يعطينا إجابات جاهزة، لكنه يزودنا بالبوصلة المطلوب أن نتعامل معه بعين ناقدة، لا بعين مأسورة. أن نفهم أخطاء الماضى كي لا نكررها ، وأن نستلهم نجاحاته كي نبنى عليها . فلا يكفى أن نقول إن مصر حاولت، بل علينا أن نسأل: لماذا لم تكتمل المحاولة؟ ومن الذي أوقفها ؟ وهل يمكن اليوم أن نعيد إطلاقها في ظروف جديدة؟ هنا يأتي دور الوعى الجمعي. فالمجتمع الذي لا يتعلم من ماضيه يظل أسيرا لدائرة الإخفاق، أما المجتمع الذي يواجه تاريخه بصدق، فإنه يتحرر من عقده، ويستطيع أن يكتب فصولاً جديدة مشرقة. 

اليوم، تقف مصر أمام لحظة حاسمة التحديات هائلة: ضغوط اقتصادية، أزمات إقليمية، تغير مناخي، وانفجار سكاني. لكن في المقابل هناك فرص موقع جغرافي استثنائي، موارد طبيعية، قوة بشرية شابة، وتجارب سابقة غنية السؤال هو : هل نستطيع أن نحول هذه التحديات إلى دافع للتغيير الحقيقي؟ هل نستطيع أن نتعلم من التاريخ فنفهم أن المشروع الوطني لا يبنى بالقرارات المؤقتة ولا بالسياسات المتذبذبة، بل بالاستمرارية والشفافية والاستثمار في الإنسان قبل أي شيء آخر ؟ المطلوب ليس العودة إلى الوراء، ولا الانبهار الأعمى بالآخرين، بل صياغة مشروع مصرى معاصر يقوم على التعليم الجاد باعتباره حجر الزاوية لا مجرد شعارات تعليم يخرج عقلاً ناقدا قادرا على الإبداع. وعلى العدالة الاجتماعية لتقليل الفجوة بين الطبقات وجعل التنمية شاملة. وعلى المؤسسية كي لا يرتبط المشروع بفرد أو نظام بل يصبح ملكا للشعب كله. وعلى الانفتاح على العالم دون فقدان الهوية بالاستفادة من خبرات الآخرين مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية وعلى رؤية طويلة المدى لا ترتبط بولاية أو حكومة، بل تمتد لعقود كما فعلت الصين وكوريا . التاريخ ماكر حقا ؛ فهو يعيد نفسه مع من لم يتعلم درسه ومصر - بحكمتها الحضارية - قادرة على أن تفلت من هذا المكر إذا وعت أن المستقبل لا يصنع بالحنين، بل بالإرادة والعقل والعمل. إن استكمال المشروع الحالي ليس رفاهية بل هو الفرصة الأخيرة لتخرج مصر من دوامة المحاولات غير المكتملة، وتحقق ما يليق بتاريخها العريق ومكانتها بين الأمم.